اللغة أخطر النعم / هيدرلن
بمقدار ما تنشر الشاشة الكذب، فإنها أيضاً تكشف الكذب، وبالتصور الواقعي فإن أي كذبة لا تملك أن تعيش أكثر من ساعات، لتخلي مكانها لكذبات أُخَر ستواجه المصير نفسه، وهذه مفارقة حيوية عن أكاذيب أزمنة مضت، إذ تستقر الكذبة سنوات وقد تستقر أبدياً، وكانت الكذبة تحتاج لقوة مادية عالية ولجهد فردي أو مؤسساتي مخلص ومثابر لكي يتجلى أمرها، وهي اليوم مكتوب عليها ولها الانتشار السريع والتصديق السريع والانجرار معها بلا بصيرة ثم تقع في مغبات سرعتها لتتحطم كما تتحطم سيارة تتجاوز حدود طاقتها الميكانيكية. ولهذا فإن «تويتر» مثلاً ملحمة تفوق كل الملاحم الكبرى في كل الثقافات من حيث أسطرة القول والفعل وحالات الإرسال والاستقبال بالشيء ونقيضه معاً وفي آنٍ، وبمقدار ما يكتشف الناس أكاذيب وسائل التواصل، فإن هذا لا يحصنهم من الوقوع بالشرائك نفسها، مرة تلو أخرى في مبارزة غير نهائية تشبه حبكات «توم وجيري»، وكل فرد يدخل شاشات التواصل سيكون «توم» أو «جيري» أو هما معاً في تبادل غير منقطع، ومهما تشكى واشتكى فإنه لن يسلم من الوقوع والتورط، لأن جيري لا تتعلم من المقالب، وتوم لا يتعلم من ضياع حيله، وكل فرد يدخل الشاشة يظل فيها ومعها بدافع المتعة والضرورة معاً، وكأن مقاطعة الشاشة تعادل مقاطعة الحياة، والحاصل أن المرء يقاطع الواقع الاجتماعي حتى المحيط به، من أجل الشاشة بإغرائها السحري الذي لا يقاوم، وتهون السلبيات كلها أمام سحرانية الشاشة وتمكنها من اختراق كل حصون المقاومة، ومن ثم السيطرة على الوقت وعلى الظرف وعلى الرغبات، وتوجيهها لهذه كلها لتكون سخرة يتم بها إخضاعنا لسلطة الشاشة، وتوجيهها لنا عبر اللغة أولاً وعبر فضاء الأخذ والرد، وعبر صيغة التواصل الشاشاتي المفارق للتواصل الواقعي، ولم تعد الشاشة واقعاً افتراضياً بل أصبحت هي الواقع الحي؛ لأنها تملك القدرة على سحبنا من الواقع وحبسنا داخل الشاشة حتى لا نعي ما حولنا، وكأننا فقدنا السمع والبصر، بما أن الشاشة سلبت منا السمع والبصر برضا وتسليم تام منا، وهذه سحرانية الشاشة ومفعولها الأسطوري، كما كانت الأساطير القديمة تدير رؤوس السابقين ومعانيهم.