على الأرض نفسها التي وقفوا وساروا عليها نقف اليوم، تظللنا السماء نفسها، بالارتفاع نفسه، ومسافة البعد نفسها. وقفت أمام تلك الأعمدة والمنحوتات التي تتلحف بالجلال والبهاء والكبرياء، مررت بالمدرجات التي تصارع فيها فرسان الرومان. وفي مكان آخر جلست على مقعد هوميروس الذي ألهمه لكتابة الإلياذة. من هنا مر أخيل، وعند هذه الزاوية اخترق السهم كاحله، وإلى هذه المدينة هربت هيلين مع باريس تاركة ملك اسبارطة، لحاقاً بقلبها وحبها، أو الغواية التي تملكتها.
على بعد مسافة ليست طويلة، بمفهوم الجغرافيا، لا التاريخ، مر إبراهيم عليه السلام وبنى البيت العتيق، وفي هذا المكان سعت هاجر مهرولة بحثاً عن ماء. وهذا الطريق سار عليه سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام مهاجراً من مكة إلى المدينة.
الطائرة حطت قريباً من البقعة التي انهزم فيها نابليون بونابرت في حربه مع الإنجليز في واترلو قرب بروكسل، وهنا وقف وقال: «خسرنا كل شيء إلا الشرف».
وبالقرب من هنا دارت حروب عالمية ذهب ضحاياها الملايين، حارب هتلر وانهزم وهدم الجدار الذي قسم برلين.
كلهم ذهبوا وبقي المكان. واستمرت الأرض في منحنا كراماتها، وغفران أخطائنا، وبقيت تنبت أشجاراً وتخرج لنا معادن من باطنها، كي نستمر، علنا نترك أثراً ما «جيداً كان أو سيئاً لا فرق»، عندما نرحل عنها. لكننا كعادتنا دائماً، نقابل الإحسان بالإساءة، ها هي خيرات الأرض تنضب، بعض الدول أنهت ما هو مخصص لها من مقدرات، سابقة الزمن المتوقع أو المفترض بعشرات الأعوام. وها نحن، لم تعد الأرض تتسع لنا، ونريد السطو على كواكب أخرى. مسكينة أيتها الأرض.. لا بل نحن المساكين.