دائماً وعند سماعنا بـ«فيتنام»، أول ما نستحضره من ذاكرتنا معاناتها وصمودها أمام الحرب الضروس التي خاضتها مع كلّ من فرنسا وأميركا، ربّما يعود ذلك لكثرة الأعمال السينمائية التي شاهدناها وتأثرنا بها حدّ البكاء بحجم معاناة ذلك الشعب الصامد.. فيتنام مختلفة تماماً عن ما نصنعه في مخيلتنا، فاليوم هي بلد حضاريّ ولديه مقومات تجعله من أفضل البلدان الآسيوية، وخاصة على الصعيد الثقافي، ومدنها التاريخية حاضرة لتسرد لزائريها قصصاً كثيرة عن بطولاتها وتاريخها.. ومدينة هانوي واحدة منها.
تعتبر هانوي ثانية كبرى مدن فيتنام بعد مدينة هوتشي منه، تقع في الشمال وهي العاصمة الرسمية للبلد منذ عام 1010، وقلب دلتا النهر الأحمر النابض، كان يطلق عليها في الماضي اسم «ثانج لونج» أي «التنين الطائر»، لكن هانوي باللغة الفيتنامية تعني «مدينة بين الأنهار». تبلغ مساحتها 3329 كيلومتراً مربعاً، بعدد سكان يتعدى الـ6 مليون نسمة، وهي المحرّك الاقتصادي والسياسي والثقافي لفيتنام، وشهدت أحداثاً تاريخية كثيرة طُبعت في ذاكرة وقلوب الفيتناميين منذ الأزل، ترسم ملامحهم عادات وتقاليد ما زالوا يتوارثونها أباً عن جدّ حتى يومنا هذا.
كثرة المعالم التاريخية والثقافية الجميلة في هانوي، تجعلك تمدّد زيارتك إن كانت قصيرة، ففيها من التاريخ والجمال الطبيعي ما يستوقفك كثيراً، متأملاً عظمة المكان وسحره، ووجب عليك تنظيم برنامج سياحي مميز يمكنك أن ترتبه بمساعدة موظفي الفنادق، أو أحد العاملين في الوكالات السياحية هناك، وسنذكر أبرز المعالم والنصب التذكارية التي يجب الوقوف عندها في هذه المدينة التاريخية الجميلة.
ضريح الزعيم
يعتبر ضريح الزعيم الفيتنامي «هوشي منه»، أكثر الأماكن استقطاباً للسياح في هانوي، ذلك القائد المكلل بالبطولات والمواقف التاريخية، التي يشهدها الشعب الفيتنامي والتاريخ له، يرقد بسلام في مقبرة شبيهة بتحفة معمارية، ذات تصميم هندسي روسي، يحرسه جنديان يرتديان اللون الأبيض، مع لائحة مكتوب عليها بعض الشروط خلال الزيارة، وأهمها احترام المكان، وعدم السماح بالتقاط الصور، ستفاجؤون بعدد السياح الذين ينتظرون الدخول إلى الضريح، لذا عليكم التوجه باكراً إلى المكان الذي ألقى فيه «هوشي منه» آخر خطاب له في يوم الاستقلال عام 1945، وهو المكان نفسه حيث دُفن. وللعلم فإن ضريح «هوشي منه» يتوقف عن استقبال الزوار بداية من الخامس من سبتمبر حتى 15 ديسمبر.
سجن ومتحف
من الأماكن المهمة أيضاً متحف سجن «هووا لو»، تمّ بناؤه من قبل المستعمر الفرنسي لهانوي عام 1896، كان مكاناً يُسجن فيه الثوار ضد الاستعمار، وقد شهد سلسلة من التعذيب الشنيع الذي تعرض له أبطال فيتنام، استخدمه الأميركيون بعد طرد الفرنسيين من فيتنام، مأوى ومركزاً لعدد من الطيارين الحربيين خلال الحرب الأميركية، وأطلقوا عليه اسم «هانوي هيلتون» نسبة إلى سلسلة فنادق هيلتون. تمّ تحويله بعد حرب المقاومة كما يسميها الفيتناميون إلى متحف تعرض من خلاله سلسلة كبيرة من الصور التاريخية للجنود الذين ضحوا بحياتهم من أجل الوطن، ومجموعة من أدوات ووسائل التعذيب والعنف التي كان يستخدمها المحتلّ الأميركي ضدهم، وأكثر ما يلفت الانتباه داخل المتحف، أن جميع الشواهد التاريخية الموجودة داخله، تمّ تعريفها والكتابة عنها باللغة الفيتنامية فحسب، وتخلو من أي ترجمة إنجليزية أو فرنسية، ما يدلّ على كمية الحقد الكبير الذي يكنه الشعب الفيتنامي للمستعمرين الفرنسي والأميركي، حيث قطعت فيتنام شوطاً كبيراً من أجل استرجاع حقها وحريتها المسلوبة.
يليه متحف «الأعراق» المتربع في الشارع الإداري «كو جياي»، ويكشف عن معرفة معمقة لعادات وتقاليد الشعب الفيتنامي بمختلف الأعراق والأجناس، أما متحف النساء فيعرض مجموعة ساحرة من الأعمال الفنية التي تشيد بدور المرأة الفيتنامية خلال الحرب، ودورها الفعال بالنهوض بفيتنام اقتصادياً وثقافياً، حيث تحظى المرأة بمكانة مهمة وخاصة في القطاع الزراعي، إذ تعمل أعداد كبيرة من النساء في زراعة البنّ، والأرز، وشاي اللوتس.
تعدّ كاتدرائية «سان جوزيف» من المعالم السياحية الأجمل على الإطلاق في هانوي، وهي من مخلفات وبقايا الوجود الفرنسي الذي ترك وراءه العديد من التحف المعمارية، والبصمة الفرنسية الأنيقة في هانوي، تمّ بناؤها عام 1886، وتقع في قلب الحيّ القديم في العاصمة، تتخذ في شكلها الجميل الطراز القوطي الفخم الذي يغلف أغلب الكاتدرائيات الفرنسية، وتشبه إلى حدّ كبير كاتدرائية نوتردام المشهورة منذ القرون الوسطى. كما تحتلّ قلعة «ثانج لونج» الملكية حيزاً مهماً في هانوي، حيث كانت مقراً لسلالة عائلة الملك «لو ثي» الحاكمة ومن مؤسّسي المدينة الأوائل، الذي أقيم له تمثال في ساحة «بادين» منذ عام 1896.
قصص وأساطير
لا يمكن في هانوي تجاهل كثرة المعابد البوذية الموجودة فيها، فكلّ معبد يحمل بين زواياه تاريخاً وحكاية ما، ولعلّ معبد «ثران كيوك» من أكثر المعابد التي تحظى بشعبية كبيرة من قبل الفيتناميين، وعلى الرغم من بعد موقعه عن مركز المدينة، إلا أنه يحظى بإقبال واسع من السياح، حيث يزين المعبد الشاهق الذي يرتفع عن الأرض 15 متراً، مدخل رئيسي يحرسه تمثال بوذي ضخم، ويضمّ عدداً يصل إلى 11 طابقاً. ويرافقه من حيث الأهمية معبد «ها باجودا» الذي يعود تاريخ بنائه إلى ألف سنة، ويحظى بإقبال كبير من شتى أنحاء فيتنام، ويعود ذلك لقدسيته الكبيرة لديهم، فباعتقادهم أن الصلاة والتعبد فيه تجلب الحظ والطالع الجميل، والرزق الكثير لهم، حيث تقول إحدى الأساطير التي يتداولها أهالي هانوي، إن الإمبراطور السابق لفيتنام الملك «لي ثانه»، كان لا ينجب أطفالاً، وأنه بمجرد مجيئه إلى المعبد والصلاة فيه، رزق في السنة التالية بابن ذكر، كان الابن الوحيد الذي تولى العرش من بعده. وأغلب زوار المعبد اليوم من فئة الشباب الحالم بالرومانسية، وكثيراً ما يتمّ فيه الاحتفال بعيد الحب من كل سنة، وسط طقوس جميلة، تلون المعبد في ذلك اليوم كمية هائلة من الورود الحمراء الجميلة.
ومن المعابد الجميلة نجد معبد «العمود»، وهو من المعالم الرمزية الأكثر شهرة سياحياً، يشبه في شكله الجميل تفتح زهرة اللوتس، ويرتفع عن مياه بحيرة «هوان كيم» بواسطة عمود يخترقه من الوسط، مرتقعاً به في إطلالة ساحرة على البحيرة التي يتخذها أهالي مدينة هانوي، مرتعاً للاستجمام والراحة الممتعة، من خلال التجول على ضفافها والجلوس على مقاعدها الخشبية الجميلة المنتشرة في ممشى الحدائق الخضراء المحيطة بها، فهي من أفضل الأماكن لممارسة رياضة المشي و«التاي شي»، وهو نوع من الرياضات التي يمارسها كبار السن في الصباح الباكر أمام البحيرة، هي جزء من العادات والتقاليد المتعلقة بحياتهم اليومية. كما يرتاد بحيرة هوان كيم التي تعني «السيف الخالد» عدد كبير من عشاق الرومانسية، من أجل زيارة معبد «نجوك سون» الذي يقع شمال البحيرة وينتصفها فوق جزيرة صغيرة، يتمّ الوصول إليه عن طريق عبور جسر خشبي أحمر اللون يطلق عليه اسم «هوك» أي «جسر الشمس المشرقة»، لا تنسوا التوقف عنده وأنتم تعبرونه، ستلتقطون صوراً لأجمل المناظر الطبيعية وسط البحيرة التي تطلّ عليه من كلّ جهة، وسيقابلكم من الضفة الأخرى مبنى جميل يحمل اسم «برج السلحفاة»، والسلحفاة حيوان مقدس وله رمز جميل في هانوي، حيث تروي الأساطير أنه كانت هناك سلحفاة بحرية ضخمة، تعيش في البحيرة، وقد ساعدت الملك «لو لوي» إمبراطور فيتنام في القرون الماضية، على مطاردة الصينيين عبر البحيرة. وتقام في البحيرة فعالية سنوية تتضمن مهرجان رقص الدمى المائية، احرصوا على الوجود في هانوي في شهر إبريل من كل سنة، ستستمتعون كثيراً بهذا النوع من المهرجانات، التي تصاحبها أنشطة كثيرة، وعروض وخصومات جميلة من الفنادق الراقية المنتشرة حول البحيرة.
هناك معالم ترتبط بثقافة وتاريخ فيتنام ارتباطاً وثيقاً، أبرزها معبد «الأدب» «كويوك تو جيان» الواقع في شارع «تيو جيام»، هو معبد سطّر مرحلة تاريخية مهمة، تمّ فيه تأسيس أول جامعة في هانوي وفيتنام بأسرها عام 1070، خلال حكم الملك «لي تانه تونج»، درست من خلالها الديانة الكونفوشيوسية التي يعتنقها أغلب الفيتناميين إلى جانب البوذية، وأصبحت اليوم منارة للعلم والأدب، يتمّ فيها تكريم العلماء ورجال الأدب، في ملتقى الفكر والأدب.
الحيّ القديم
لمعرفة الحياة الفيتنامية لسكان هانوي عن قرب، والاستمتاع بالتسوق واقتناء التذكارات السياحية بأسعار رخيصة، لا بد لكم من زيارة الحي القديم بقرية «دوانج لام»، وهي من أهم المواقع السياحية والتراثية في هانوي التي صمدت أمام الحروب التي تعاقبت عليها، تمّ إدراجها في قائمة التراث العالمي لليونسكو، يعود تاريخ وجودها إلى أكثر من 1200 سنة، هي وجه آسيا الحقيقي لفيتنام، اشتهرت ببيوتها القرميدية القديمة قدم التاريخ، ولونها الطيني الأحمر، يصل عددها إلى 36 بيتاً، متراصة ومتلاصقة في ما بينها، تتخللها شوارع ضيقة، تكشف جميعها عن حياة السكان اليومية الصاخبة التي يصدرها صوت الباعة من الأسواق، والدراجات الهوائية والنارية طوال اليوم، وهي وسيلة التنقل الأكثر شيوعاً في تلك المنطقة الشعبية، تتخلل الحي القديم أسواق متنوعة، تضمّ محلات بواجهات ملونة، تنقسم بدورها إلى سوق «هانج باك» الذي تكثر فيه محلات الصياغة من الذهب والفضة، ومحلات ذات مشغولات خزفية تقليدية ويدوية، وأخرى متخصصة في صناعة قبعات السلال المستديرة التي يضعها أغلبية السكان فوق رؤوسهم، وسوق «هانج لان أونج» الذي ينفرد بمحلات متخصصة بالعطارة وبيع أدوية أعشاب الطب البديل التقليدية، أماّ سوق «هانج كا» فيعتبر ملاذاً مهماً لعشاق سوق السمك من ثمار البحر والأسماك الطازجة. أما ليلاً فيسود الصمت في المنطقة، إلا من أصداء مطاعم شارع «ثا هين»، التي تصدح بالموسيقى والحركة الليلية للسياح.
جولة في النهر
لا تفوتوا التنزه في خليج «هالونج» الذي يبعد عن وسط المدينة، حوالي أربع ساعات، بإمكانكم قضاء يوم كامل للتجول هناك، بداية من التنزه في منطقة تدعى «رامس» أي أرض الرومانسية، نهاية برحلات القوارب السياحية المنتشرة بكثرة هناك، على نهر هالونج الشاسع، سيسحركم منظر الجبال الشاهقة التي تحيط به وزيارة أشهر المغارات الموجودة تحت سفوح الجبال، واسمها مغارة «هونج تيش». كما يمكن عند الانتهاء من التنزه عبر النهر، الاستراحة بأحد المطاعم الشعبية المنتشرة قرب النهر، والتي تقدم أشهى وألذ الأطباق الفيتنامية التي تتنوع ما بين الأكلات البحرية والنباتية، مثل طبق «فو بو» وهو عبارة عن حساء نودلز باللحم، وطبق «جوا كيون» المكون أساساً من الجمبري والخضار المطهوة على البخار، وطبق «إكسوا» المكون من الأرز الأبيض بصلصة الكراث الشهية. ولمن يرغب في متعة سياحية أكبر، يمكنه الذهاب بعدها في رحلة قصيرة إلى مدينة «دانانج» الساحرة، التي تبعد عن المكان بضعة كيلومترات، لزيارة جسر البوابة الذهبية المشهور بالكفين العملاقين اللذين يحملانه، والتقاط أجمل الصور التذكارية هناك.