قبيل رحيله عن الدنيا في عام 2010، كتب المحامي وكاتب المقال القدير محمد مساعد الصالح أمنية مستحيلة في أحد مقالاته الأخيرة، وقت مرضه، يقول إنه يتمنى لو قُيضت له العودة من الموت برهة من الزمن يقرأ ما سوف يُكتب عنه، ثم يعود إلى موته.
تبدو الفكرة مجنونة، ولكن لها مسوغاتها بكل تأكيد، في عالم لا يعترف بمبدعيه إلا بعد مغادرتهم، تغص الصحف ومواقع التواصل بتعداد مناقب الراحلين، ويعبر الناس عن مقدار محبتهم وتقديرهم لهم وشعورهم بمرارة الفقد والخسارة الكبيرة التي لا عوض عنها. وتبدأ مجموعة من الكتاب ممن امتهنوا وظيفة متعهد دفن الموتى، بجمع الصور واللقاءات القديمة وضمها في كتب كسولة لا جديد فيها ولا مفيد إلا ما يحقق لمتعهد دفن الموتى إضافة كتاب جديد في قائمة إصداراته في سيرته الذاتية. يتهافت السياسيون يصرحون ويؤبنون، وإن اكتسب الأمر مقداراً من الجدية فقد يحظى المرء بعد موته بتسمية شارع أو مدرسة باسمه، يعرف الكل بأمر التسمية إلا هو. وإن أعدنا التفكير في الأمر لأدركنا أن التكريم ليس للراحل إنما هو تكريم للشارع أو المدرسة أو المبنى الذي تسمَّى باسمه، فما قيمة تكريم لا يشهده المُكرَّم المُهمَل في حياته، وما قيمة احتفاء لا يحضره المحتفى به؟!
ينتفض السؤال داخل رأسي كلما غصَّت مواقع التواصل بخبر فقدان مبدع، قد يعرفه البعض قبل موته ولا يعرفه الكل إلا بعد الموت، لماذا هذا التقدير بعد فوات الأوان؟ وإن كان تقديراً فهو تقدير لمن؟ ولماذا لا يحظى المرء بعد تجربته الطويلة ببعض ما يصير إليه اسمه بعد الرحيل؟ كان بيننا سنوات طوال لم نلتفت إليه ولم يتعرَّف إلى قيمته ومقدار المحبة في نفوسنا، ماذا لو عبَّر المرء عن محبته وتقديره وامتنانه للإنسان قبل رحيله حين يصير للتعبير معنى للطرفين. حين يقود سيارته يسلك شارعاً يحمل اسمه، أو يتقدَّم الحضور يقص شريط افتتاح مبنى حظي باسمه.
عودة إلى بداية المقال؛ أتذكر المفارقة بعد قراءتي أمنية الراحل محمد مساعد الصالح وأنا أقرأ عنه ما لم أعرفه عنه في حياته في صفحات الجرائد، وأقترب من شخصيته أكثر داخل جناح في معرض الكتاب يحمل اسمه ويعرض أهم كتاباته.. كنت أفكر في قوله: ماذا لو قُيضت لي العودة من الموت برهة من الزمن، أقرأ ما يُكتب عني، ثم أعود إلى الموت؟