يُعبّر كثيرون بالعينين واليدين، وبرموز بصرية وحسية أو بكلمات معسولة أو حزينة أو غاضبة، أو بقبلة ونظرة واحتضان. لكن ماذا عن تلك «الخربشات» على الأوراق التي يقوم بها الإنسان من دون أن يدري أنه يفعل؟ وماذا عن بعض التعابير العفوية التي تثيرُ في المحيط الاستغراب؟ ولماذا نرتاح حين نرقص ونغني ونرسم؟

في اجتماع ما، حين تشتد التباينات أو يتسلل الملل، يبدأ كثيرون في رسم إشارات وخطوط «غريبة عجيبة»، بعضها له دلالات وبعضها يبدو للناظر مجرد «خربشات»، تنتهي بمجرد انتهاء الاجتماع لكن من هنا، من هذه النقطة بالذات، يبدأ علم النفس بالعبور إلى الأعماق والتحليل في طبيعة الشخصيات من مدخل: العلاج بالفن أو الفن الذي يشير إلى مشكلة نفسية ما.

التعبير بالفن
توجد في بيروت، بالقرب من سوق شعبية تزدحم بالبشر، عيادة طب نفسية تديرها الاختصاصية في علم النفس السريري والباحثة في العلاج النفسي بالفن الدكتورة أنيتا توتيكيان. تنبض العيادة بكثير من الألوان والرسوم والأشكال، وعلى الجدران كثير من الإشارات التعبيرية من جمل وأحرف وأمثلة ومشاعر. هنا، في هذه العيادة، تترك للزائر حرية التعبير عن طريق الفنّ. لكن، من هم زوار العيادة؟ وهل هناك أصول للتعبير والعلاج؟
تصطف سبعة كراسٍ صغيرة حول طاولة ملونة، مما يوحي أن من يعانون نفسياً قد يكونون أطفالاً. ويأتي جواب أنيتا توتيكيان ليحسم الجواب: «الزائرون (ولا أرغب أبداً في تسميتهم مرضى) من كل الأعمار، يستخدمون الفن للتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم وتصوراتهم وقلقهم ووجعهم». تُمسك أنيتا ورقة بيضاء كبيرة تشارك شخصين في رسمها وتستعين بقصاصات ووجوه ضائعة ورموز وعبارات في إنجازها. هي لوحة قاتمة، موجعة، كُتب في أعلاها: صورة في مرآة الضحية. وذُيلت بعبارة: أنصتوا إلينا. إلى جانبها صورة أخرى رسمها مجموعة أولاد تتردد فيها أصداء كلمات «حب» و«سلام» و«فرح». يسعى الأولاد من خلال رسم السلام والحمام الأبيض وابتسامات وأشجار إلى استعارة بعض الفرح.

صف علاج نفسي
المشاركة ضمن الجماعة في الغناء أو الرسم أو تنفيذ أشغال يدوية، يفيد أكثر من جلوس إنسان وحيداً ومحاولته النجاة من أزمة نفسية عبر علاج نفسه بنفسه فنياً وتقول المعالجة النفسية: تتيح المشاركة، ضمن مجموعة، في صفّ علاج نفسي، إخراج الأفكار العالقة في دواخلنا، والتأثير الإيجابي ببعضنا بعضاً. ونُصغي غالباً إلى نقاش المشاركين ورغبة أحدهم في الاستعانة باللون الأسود في حين يصر آخر على رسم الشمس والبحر والشجر. يتناقشون حول الموضوع وهذا يُساعدهم كثيراً. وتستطرد: العلاج النفسي يُخاطب المنطق، أما العلاجات الفنية التعبيرية فتُخاطب الغريزة.

تحرير النفس
لا يثق كثيرون في عالمنا العربي بقدرة العلاج بالفن، بالرسم، بالطين، بالغناء، وبالرقص على تحرير المشاكل من كوامن النفس. ولا يوجد اختصاص «العلاج النفسي عن طريق الفن» في أغلبية الدول العربية. هناك كثيرون يبتسمون حين يسمعون بأن «الخربشات» على ورقة هي نوع من العلاج.
يبدأ هذا النوع من العلاجات بطلب المعالجة النفسية من زائريها، رسم وجوه أفراد العائلة وما يطمحون إليه في المستقبل، وما يتوقعونه، وما الذي ضايقهم البارحة وأول البارحة. هي رسومات بسيطة قد تفشي كثيراً من الأفكار والمشاعر التي يعجز عن إفشائها كثير من المراهقين والبالغين. إنهم يتحدثون عبر هذه الرسومات عن تجارب مرة وصدمات وانفصال الوالدين والمشكلات العاطفية. وهناك مرضى سرطان ينجحون في لفظ الأفكار والمشاعر السلبية والانفعالات عبر الرسم.

قصص عميقة
يوجد وعاء كبير مليء بالرمال، كما رمال البحر، وفي داخله أشخاص وأشكال. أحدهم وضع رأس مجسم في الرمال. قتله. وآخر بعثر كُلّ ما في الوعاء تعبيراً عن طوفان جارف. وثالث هندس الشاطئ بكثير من الرضى. تصرفات بسيطة تروي قصصاً عميقة. العلاجُ عن طريق الفن يُعزز الراحة والسكون من خلال التعرف إلى المشاعر الباطنية والاعتراف بها. وتساعد الرموز المتكررة التي يتم التعبير عنها وتحليلها على جعل التجارب والمشاعر اللا واعية واعية. إنه يساعدها على الاستيقاظ.
تقول أنيتا: «حين نرسم ما يُزعجنا في اللاوعي نتمكن من إدارة مشاعرنا بشكل أفضل. وأثبتت التجارب أن هذا النوع من العلاجات يُساعد على الشعور بالسيطرة الإيجابية وعلى التكيّف الاجتماعي للأطفال خصوصاً الذين يعانون صعوبات التعلم وفي تحسين المزاج. ولسنا في حاجة إلى أن نكون فنانين ورسامين لنرسم مشاعرنا. يكفي أن نتخيلها لنُعبّر عنها بأي شكل من الأشكال. أقلام التلوين المائية على الطاولات. أزرار. خرز. حبال. وكثير من الأشكال والأشياء تُستخدم في العلاج. الطين يُجبل ويتحول إلى أشكال تعبيرية وكُلّ شكل يروي قصة دفينة».

تعبير من ذهب
التعبير بالفن هو تعبير إبداعي يتغلب على قيود اللغة، وما تعجز كل أبجديات الأرض على التعبير به. الخياطة شكل آخر من التعبير. النحت شكل أيضاً منه. الكتابة أيضاً وأيضاً ومثلها الرقص. تتعدد الوسائل في سبيل تسهيل التعبير. وبعد الانتهاء من الأشغال الفنية يبدأ الحوار الذي «يُفرّغ» فيه كُل مشارك بكل هواجسه وقلقه ومشاعره ويتلقى نصائح من المشاركين الآخرين في المجموعة. والكلام في ذاته علاج، أما السكوت فيشكّل ضغطاً نفسياً شديداً. والفارق بين الكلام والسكوت هو كما الفارق بين العلاج واللا علاج. وهناك من يستفيد من جلسة علاج واحدة وهناك من يحتاج إلى أربع أو خمس جلسات.

تنمر
أكثر أنواع المشاكل التي يعانيها من يقصدون العيادة النفسية هي عاطفية، وسوء علاقة مع الأهالي والتنمر في المدارس. الصغار يتأثرون جداً بالتنمر ونادراً ما يعبرون عنه وحين يكبرون يفشلون في العمل وفي بناء الصداقات والعلاقات الشخصية. العلاج عن طريق الفن يفيد جداً مثل هؤلاء. ننظرُ حولنا. الجدران مليئة بعبارات ورسوم بعضها مفهوم وبعضها لا. أحدهم رسم رأس طماطم وعبّر بكلمتين: قابل أنا مثل رأس البندورة «للمعس» و«الدعس». أحدهم رسم كلباً وكتب: بحاجة إلى صديق. نتذكر ونحن نرى الرسوم على الجدران بابلو بيكاسو، الرسام الإسباني العالمي، في لوحته «البؤساء» وانكفاء الأرواح على نفسها والحزن الذي لا يُشرق فيه شيء. بيكاسو كان يعالج نفسه بنفسه أيضاً بالرسم.