من المواقف الخالدة في وجدان العرب والعالم، ما قاله الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، حين قرّر قطع النفط عن الولايات المتحدة الأميركية والدول الداعمة لإسرائيل، إبّان الاعتداء على مصر: (لقد كنا نعيش تحت الخيام، ونستطيع أن نعود إليها..)، ولطالما اقترنت هذه المقولة في ذاكرتي بمقولة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: (إن النفط العربي ليس بأغلى من الدم العربي، وإننا على استعدادٍ للعودة إلى أكل التمر مرةً أخرى). وإن كنت محظوظاً بمعاصرة زمن والدنا الشيخ زايد ولو طفلاً، فإنّ الزمن لم يحالفني لأعاصر أيام الملك فيصل، ليصبح أسطورةً في نظري ونظر الأجيال السابقة واللاحقة، بشجاعته واعتزازه بعروبته ومواقفه المشرفة تجاه وطنه وأمته.. لكن، حتى الكثير ممن عاصروا هذا الملك الفذ ما زالوا لا يعرفون عن طفولته وصباه، وكيف صار إلى ما صار إليه، وهنا تأتي السينما، بفيلم غير مسبوق عن رجل لا يجود الزمان بمثله مرتين: وُلِـد ملكاً.
وُلد ملكاً
يتناول فيلم Born A King قصة سفر الملك فيصل آل سعود في صباه إلى بريطانيا في زيارةٍ رسمية، ممثلاً عن والده الملك عبد العزيز، في الفترة التي كانت تعاني فيها شبه الجزيرة العربية صراعاتٍ ومعارك بين أطراف عدة قبل قيام المملكة العربية السعودية. (دعْ شبه الجزيرة العربية لوالدي، إنه القائد الحقيقي الوحيد)، هذا القول الحازم الواثق يصدر من صبيٍّ لم يتجاوز الـ13 من عمره، مخاطباً وزير خارجية بريطانيا العظمى في المفاوضات على مصير المنطقة، ومن هذه النبرة القيادية يستمدّ الفيلم عنوانه (وُلد ملكاً)، فمن يطّلع على سيرة هذا الملك يُدرك أنه إلى جانب خوضه للحروب؛ قد تشرّب الدبلوماسية منذ نعومة أظفاره، وبرع فيها، آخذاً بقول والده بأن النصر في السياسة أهم من النصر في كل الغزوات، وبأن الأولوية دائماً للسلم، ولا عجب أن يخرج لنا من صُلب هذا الملك داهيةُ عصره في السياسة، وزير الخارجية الراحل سعود الفيصل، رحمه الله، الذي قال: (إننا لسنا دعاة حرب، ولكن إذا قرعت طبولها فنحن جاهزون لها).
دماء سعودية
حين سمعت عن إنتاج الفيلم، لا أخفيكم أنّ أكثر ما أخافني هو الهيئة التي سيظهر بها أبناء الجزيرة العربية، واللهجة التي سيتحدثون بها، فصورتنا في الأفلام العالمية والهوليوودية مشوهة، ويمثلها أجانب يُرغمون على ارتداء الثوب والشماغ، والتحدث ببضع كلماتٍ تسبب شداً عضلياً لألسنتهم. لكن مخاوفي تبددت مع بدء مشاهدتي الفيلم، فمن الواضح أنّ الدماء السعودية كانت حاضرةً بقوة في الإشراف والتنفيذ، مما أسهم في إيصال الروح الأصيلة للعمل، وبالتالي إقناع المشاهد. أحببت العناية بالتفاصيل، وتحديداً في إظهار البيئة الصحراوية والزي العربي النجديّ في أبهى حلة. الإخراج والموسيقى التصويرية كانا متناغمين مع المشاهد، وانتقالها من جزيرة العرب إلى بريطانيا. السيناريو احتوى على لمحاتٍ ذكية منها توظيف بعض الرموز التاريخية من التراث العربي مثل الشاعر امرئ القيس، بالإضافة إلى تضمين أبيات مشهورة للملك عبد العزيز نفسه:
«حنّا ليا ركبنا عراب الخيل … وتقاحص الفرسان قدّام وورا
شهبٍ عليها من ذياب الليـل … فرسان خيلٍ ما تباع وتشترى»
كما أُعجبت بأداء الصبي الذي أدى دور الملك فيصل بن عبد العزيز في صباه، بدا رزيناً واثقاً وموحياً بأنه ملكٌ بالفطرة ودون تكلّف. أما الممثل الذي أدّى دور الملك عبد العزيز، فعلى الرغم من أنه يشبهه إلى حدٍّ كبير في شبابه، إلا أن أداءه بدا لي متصنعاً على نحوٍ ما، وكأنه ظل متشنجاً طوال الفيلم.
إضافة فنية
فيلم (وُلد ملكاً) يعدّ إضافة فنية مهمة تعزّز القوة الناعمة للمملكة العربية السعودية، فرُبّ فيلمٍ يفعل ما لم تفعله السياسة، والفن يخاطب القلوب قبل كل شيء، ويكفي أنني شعرت بقشعريرة فخرٍ واعتزاز في الكثير من مشاهد الفيلم، وبالذات عند دخول الملك فيصل على ملك بريطانيا لأول مرة، وعند امتطائه الخيل دون سرج في حديقة القصر، وعند مجاراته كبار الساسة والوزراء حول موائد السياسة. رحمَ الله الملك فيصل، فلو عاصرتُ زمن هذا الرجل لما قلت إلا ما قاله المتنبي:
«ما كنتُ أحسبُ قبل دفنك في الثرى … أنّ الكواكب في التراب تغورُ».