الأعمال العظيمة تجعلني جباناً في التحدّث عنها، ذلك أنني أخافُ أن أصِفها فلا أُنصفها. لو كتبت هذا المقال فور خروجي من السينما بعد مشاهدة فيلم Joker لكان معظمه عبارات مذهولة من قبيل (يا إلهي!)، (لا أصدق!)، (يا للعبقرية!)، ولاحتوى على بعض الشتائم البيضاء على سبيل المديح العنيف، إضافةً إلى درزنٍ من الأخطاء الإملائية والنحوية التي يقع فيها شخصٌ يكتب بأصابع لاهثة تحت تأثير الدهشة. ربما هذا ما يجدر بنا فعله حين ننوي الكتابة عن عمل فني عظيم؛ أن نستخدم اللغة العفوية التي تخرج منا كالطوفان من دون تنميقٍ وتهذيب، أن نعود أطفالاً عاجزين عن التعبير، فذلك أوضح اعترافٍ بسموّ هذا العمل، وإعجازيته.
انتصار للفن
ما الذي فعله فيلم Joker بالعالم؟ الأمر تجاوز مسألة ازدحام قاعات السينما وتنكُّر الآلاف بوجه المهرج في الشوارع، فالشرطة الأميركية ظلت في حالة طوارئ تخوفاً من تكرار الحادثة المفجعة في 2012، حين قُتل 12 شخصاً أثناء عرض فيلم باتمان The Dark Knight Rises، حيث ظهر الجوكر السابق، الراحل (هيث ليدجر). لكن الذي فعله فيلم جوكر حقاً ليس إثارة الفوضى، بل إعادة الأمور لنصابها، فهو أولاً أعاد للسينما رونقها بانتصاره للفن الخالص، وثانياً أعاد لشركة DC هيبتها بعد تخبطٍ طويل أمام منافستها مارفل، وحسم منذ الآن كل الجدل والتكهنات حول هوية الفائز بجائزة أفضل ممثل في حفل الأوسكار المقبل.
رمز
(كنت أعتقد أنّ حياتي مأساة، لكنني أدرك الآن أنها كوميديا). يمكن تلخيص فيلم Joker في هذه العبارة التي تختصر التحول الهائل في شخصية أحد أشهر المجرمين في تاريخ السينما. يتناول الفيلم قصة الجوكر منذ البداية، من قبل أن يصبح مجرماً ويدخل في صراعه الشهير ضد باتمان. كان مجرد شخصٍ عادي اسمه (آرثر فليك)، يعيش وحيداً مع أمه ويعمل مهرجاً، ويعاني اضطراباً عصبياً نادراً يتمثل في الضحك لا إرادياً بشكلٍ هيستيري ومن دون سبب. يبدو آرثر للكثيرين شخصاً غريب الأطوار، فيتعرض للإقصاء والتنمر أكثر من مرة، مما يدفعه إلى الانطواء أكثر فأكثر داخل قوقعته، ونلمس الحزن وقلة الحيلة في حواره مع أخصائيته النفسية، إذ يقول: (أسوأ ما في الإصابة بمرضٍ عقلي، هو أن الناس يتوقعون منك أن تتصرف وكأنك لست مصاباً به). وتتصاعد أحداث الفيلم متناولة الظروف والصدمات التي حوّلت آرثر من مجرد مهرجٍ منبوذ إلى جوكرٍ يقود عالم الجريمة في مدينة غوثام، ويمثّل رمزاً لتمرد المسحوقين ضد سلطة المجتمع.
عبقرية
أنْ تعرض شخصيةً شريرة لا تُنسى فتلك براعة، لكن أن تُرينا كيف أصبحت هذه الشخصية شريرة فتلك هي العبقرية والعظمة بذاتها. لماذا يُعدّ مسلسل Breaking Bad الأفضل في تاريخ التلفاز؟ لأنه تناول شخصيةً لا تُذكَر وحولها إلى شخصيةٍ لا تُنسى، من مجرد مدرس كيمياء عادي إلى أخطر صانع مخدرات، عبر بناءٍ تدريجي للشخصية وإتقانٍ للحبكة وتسلسلٍ منطقي للأحداث، مما يقود إلى إقناع المشاهد بهذه النقلة الهائلة في السلوك. وهذا سر العبقرية في فيلم Joker، فحين اطّلعنا على ماضي الشخصية، وشهدنا ما شهده من أزمات واضطرابات وخذلان من قبل المجتمع، أصبح كل شيء منطقياً فجأة، وكأن التحول إلى مجرم هو النتيجة الحتمية الوحيدة لكل ما سبق، بل إن الأخطر من ذلك هو أن معظمنا، إن لم نكن جميعنا، قد تعاطف مع الشرير، وأصبح لا إرادياً يبرر له كل ما يفعله! وذلك بعد أن رأى الجانب السابق منه. وهذا يعيدنا إلى ما قاله الكثيرون من الفلاسفة والكتّاب، عن أنه لا وجود لخيرٍ مطلق أو شرٍّ مطلق، فالحدود بينهما مائعة ومتداخلة، وتحكمها ظروف الحياة المتغيرة.
أداء خرافي
كيف فعلها خواكين فينكس؟ بعد خروجي من الفيلم قلت لصديقي إنه لا بد أن يطمئن أحدهم على هذا الممثل بين حينٍ وآخر، فصحته العقلية تقلقني بعد تقمصه الرهيب للدور. خواكين أنقص وزنه حتى برز قفصه الصدري، وظل يشاهد لفترة طويلة مقاطع لأشخاص مصابين باضطراب الضحك والبكاء الهستيري ليتقن أداءه في الفيلم، وكان شجاعاً منذ البداية حين قبِل الدور رغم اتفاق الجميع على أن هناك «جوكر» واحداً مات بموت هيث ليدجر، فبهرنا بأداء خرافي يفوق قدرتنا على الاستيعاب، وعليه بعد هذا الفيلم أن يودّع وجهه واسمه الحقيقي، فقد صار منذ الآن وإلى الأبد: الجوكر.
اقتباسات من فيلم Joker:
- (كنت أعتقد أنّ حياتي مأساة، لكنني أدرك الآن أنها كوميديا).
- (يصعب أن يحاول المرء أن يكون سعيداً طوال الوقت).
- (أسوأ ما في الإصابة بمرضٍ عقلي هو أن الناس يتوقعون منك أن تتصرف وكأنك لست مصاباً به).
- (رغم أن الأمر يبدو غريباً، إلا أن البعض يشعرون بالسعادة عندما يقومون بتحطيم أحلام الآخرين).