يتميز لباس العروس التونسية بعراقة تصميمه، إذ تعود أصوله إلى العهد البوني، أي ما قبل الميلاد بحوالي ثلاثة قرون بحسب الوثائق التاريخية، حيث كانت المرأة البونية تعتني بشكلها وتبحث عن التناسق والانسجام بين اللباس وتسريحة الشعر، واستمرّ اهتمام المرأة التّونسيّة بمظهرها الخارجي في العهدين الأغلبي والفاطمي، إذ تبيّن المصادر التاريخيّة والصور الوثائقيّة بذخ لباس المرأة وميلها إلى تطريز ملابسها، إلى جانب التفنّن في صناعة ولبس الحلي.
وتجمع الروايات التاريخية على أن المرأة التونسية منذ نشأة البلاد تهتم بهندامها ولباسها اليومي فما بالك بلباس عرسها وحنتها، فلا تستغني العروس التونسية منذ ذلك العصر وحتى اليوم عن لبس الفوطة والبلوزة والفرملة، في أيام حنتها، وتتميز كل مدينة تونسية بتطريز مختلف لكساء العروس يعكس ذوق أهل المدينة.
ابتكار
ليس من السهل في تونس إيجاد «الطرّازات» أو حائكات لباس العروس، حيث يتطلب إيجادهن بحثاً واسعاً، فهن لا يعملن في مشاغل ومحلات، بل يحكن الملابس في بيوتهن منذ الأزل، توجهنا في البداية إلى رفراف (70 كيلومتراً شمال العاصمة تونس)، حيث تسكن (الخالة) صفية سوسة (65 عاماً) التي قالت عن مهنتها: «تعلمت الحياكة من زوجة عمي أنا وصغيرات المنزل، حيث كانت الخياطة والتطريز النشاط الوحيد الذي نقوم به من باب التسلية، فلقد كنا نعيش في بيت صغير على شاطئ البحر، ولم تكن هناك تلفزيونات ولا هواتف ذكية ولا ألعاب، ففي ذلك العصر كانت لعبتنا الوحيدة هي الإبرة والخيط، وكنا نبتكر ونخيط ونتبارى في الابتكار والرسم، وبعد أن نكتسب المهارة اللازمة نبدأ في حياكة لباس العروس، فكل واحدة منا ومنذ طفولتها تحيك لباسها بمقاس معين، ونترك بعض القماش على الحواشي فلربما اكتسبت العروس وزناً أكثر عندما تكبر، وبعد أن نحيك لوازم أيام الحنة والحفلات، نبدأ في حياكة مفارش السرير، وكل طفلة تقوم بحفظ ما حاكته في صغرها في خزانة خاصة، وتهويه كل فترة وتضع فيه أعشاباً حافظة تُكسب القماش رائحة جميلة، مثل نبات الريحان والخزامى».
لباس العروس
وعن تفاصيل لباس العروس، تقول (الخالة) صفية: «يتميز لباس العروس التونسية بثقل وزنه، ودقة تفاصيله، وكل قطعة يستغرق تطريزها عاماً كاملاً وربما أكثر، وكل قطعة تمر على ثماني طرّازات على الأقل، وكل طرازة تضع لماساتها على القطعة، والبداية تكون مع الرسامة التي ترسم شكل التطريز، بعدها يتم اختيار القماش أو الحرير أو الساتان، وتبدأ مرحلة التطريز بالتل والعدس والكونتيل والعقيق، وخيوط الفضة التي تكسب القطعة فخامة وأناقة».
كنز
«الطرازة» سعاد الملوح، التي تمتلك هي أيضاً خبرة طويلة في ميدان التطريز، تقول: «كل امرأة تحيك لبناتها اللباس الخاص بالعرس وتتوارثه فتيات المنزل، إذ تعد كل قطعة بمثابة الكنز المدفون في كل بيت، فهي أغلى من قطع المجوهرات، لسببين اثنين: أولهما أن القطعة تأخذ الكثير من الوقت في العمل وقد تتعدى العام الكامل، وتطرز بأحجار كريمة وخيوط الفضة ولذلك تعتبر غالية الثمن، وثانيهما أنه لا يوجد في الوقت الحاضر جيل جديد من الطرّازات اللاتي يمكن أن يتوارثن هذه المهنة، أي أن هذه المهنة في طريقها نحو الزوال. وعن عمر القطع الموجودة في بيتها، تقول (الخالة) سعاد: «قطعة العروس التي أملكها عمرها أكثر من 60 عاماً، وقد ورثتها عن أمي التي حاكتها بيديها، وورثتها بدوري إلى بناتي، والآن سنحتفظ بها إلى حين موعد زفاف حفيداتي».
سعر عالٍ
كلما كانت القطعة قديمة غلا سعرها، هذا ما تؤكده «الطرازة» الحاجة نجاة البجاوي، وتضيف: «لباس العروس يتكلف شراؤه إن وجد خمسة آلاف دولار تقريباً، أما إيجاره باليوم فيتكلف 800 دولار، مع ضرورة محافظة المستأجرة على القطعة، وإلا تضطر لدفع ثمن القطعة كاملاً في حال تعرضها للتلف». وتشير الحاجة نجاة إلى أن لباس العروس يتكوّن من عدّة قطع منها القميص، والجبّة العكري والسّراويل من مختلف المقاسات، وكل لباس يجهز لإحدى مراحل مراسم الزواج، ومنها بعض القطع كالفرملة أو غيرها من الفساتين التي تعدّ للمتزوّجات. والفرملة هي قطعة رجالية ونسائية، تلبس من الأعلى مفتوحة من الأمام مطرزة من الجانبين والرقبة يتم ارتداؤها مع باقي اللباس التقليدي في عدد من المدن التونسية، أما الفوطة والبلوزة فهما زي نسائي يتكون من جزأين، العلوي يسمى البلوزة، والسفلي تنورة طويلة تسمى الفوطة، يبقى بينهما البطن عارياً وهو لباس تونسي أصلي، تلبسه العروس يوم الحناء، لكنه اكتسح الأسواق العالمية، حيث ظهرت به العديد من النجمات العالميات.
المدرسة الأولى
تقول «الطرازة» الحاجة مامية، إن الفتيات كن يتعلمن من أمهاتهن والنساء الأكبر منهن، هذه الحرفة منذ سن التاسعة، وكانت كل بنات العائلة يجتمعن كل يوم في أحد البيوت، وخاصة بيت الجد فهو المدرسة الأولى، لتقوم كل واحدة منهن بنسج وتطريز جهازها، الذي لا يمكن أن يتم أي زفاف من دون أن تلبس العروس هذا اللباس. وكان الثمن الباهظ لهذا اللباس ودقة حياكته وتطريزه وطول وقت إعداده الذي يتجاوز السنة دليلاً على وجاهة عائلة العروس وعراقتها.
ندرة
يقول الباحث التونسي في التراث والفولكلور، أمين الكبير، إن حرفة تطريز ألبسة العروس التونسية، تعود للقدم، مضيفاً: «على الرّغم من عودة التونسيين لملابسهم التراثية، فإن أبرز مشكلة تعترض هذه الحرفة هي ندرة وجود يد عاملة قادرة على القيام بمهام التطريز والحياكة، ولها من الصبر ما يكفي لإنجاز قطع بدقة وحرفية عالية».