لعل أجمل ما أهداه المتنبي للثقافة هو قصيدته عن الإنفلونزا (أنف العنزا، حسب المفردة المترددة تراثياً، وهي استعارة من حال أنف العنزة المرتبط بسيولة دائمة الجريان، وهي حالة المصاب من البشر بحمى الإنفلونزا)، والمتنبي أشار إلى الضيفة ثقيلة الدم التي حلت عليه من دون استئذان، وحاول إغراءها بضيافة كريمة منه وترحيبية، فقدم لها المطارف والحشايا من أنعم الفرش وأعزها، ولكنها عافت عرضه، وقررت البيتوتة في عظامه.
زائرة الظلام هذه تعودت على أن تزور كل واحد وواحدة منا وتمهر في اختيار أسوأ التوقيتات معنا، إمعاناً منها في التمرد على كل رغباتنا، وامتهاناً للعبة متشيطنة تغير عبرها كل علاقاتنا مع أنفسنا ومع المحيط ومع الظروف، ولا يخفف عنا إلا إدراكنا أننا في شراكة مع كل البشر في هذه المفاجآت غير المنضبطة والمتمردة على كل حساباتنا، ثم هي تتميز بقدرتها الخارقة على إعلان وجودها عبر أنوفنا، ورغم أنوفنا، حيث نتحول في لحظة لنكون كالعنزة، أنوفاً تنزف ماءها أمام كل الناس، وعطاساً يهز كل هدوء من حولنا حتى ليتوتر كل من حولك خوفاً من ضيفتك التي لا يحبها أحد ويحاذر من انتقالها إليه، ولن تجد لك سلوى سوى مشاركة المتنبي وجدانياً لك، وهذه كلماته تصف حالنا مثله:
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور إلا في الظلام
فرشت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتوسعه بأنواع السقام
أراقب وقتها من غير شوق
مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصدق شر
إذا ألقاك في الكرب العظام
وما دامت عظامك مثل عظام المتنبي فأنت مثله بيت ضيافة قسري لضيفة ثقيلة الدم، ولن تقل الاستضافة عن المعهود في قاموس الضيافة الكريمة في بضعة أيام لا تفاوض حولها.