لا يزال الكثير من الناس يتعاملون مع الأعمال الإبداعية كما لو أنها أعمال وثائقية، يحاكمونها باعتبارها مصدراً تاريخياً، رغم أن الإبداع في مجمل الفنون والآداب يتكئ بالدرجة الأولى على الخيال لفهم الواقع.
لا تستوقفني كثيراً بعض التعليقات حول ما أكتب، ما دام لدى المتلقي مفهوم ملتبس للإبداع وعلاقته بالتاريخ، ولكني أتوقف مليّاً عند المتلقي الغيور على التاريخ وكل ما له شأن بالتراث، أولئك الناس الذين يتعاملون مع الإبداع بنفسية حراس التراث وحملة أختام التاريخ ومانحي صكوك الاعتراف، ويلٌ لكاتب يشاكس الموروث أو يسائله أو يعرضه بصورة لا توافق الهوى العام.
أتذكر حينما عرضت المسرحية الغنائية «مذكرات بحار» في أبريل الماضي، ثار البعض إزاء ما تضمنه العمل من تفاصيل لا تمت للثقافة الكويتية بصلة على حد إصراره، مثل شخصية البصَّارة، حيث ذهب حراس التراث بعيداً بآرائهم، متهمين العمل المسرحي بالإساءة إلى التراث الكويتي، لأن أهل الكويت أهل طاعة وإيمان وعبادة لا يؤمنون بمثل تلك الخزعبلات، وأن يتضمن العمل شخصية تتعامل بالسحر والكهانة، إنما هي إساءة ومغالطة كبيرة في حق المجتمع والموروث الثقافي.
الغريب في الأمر أن شخصية مثل تلك موجودة في كل مكان وزمان، ووجودها لا يمس التراث ولا ينتقص من إيمان البشر في أي مجتمع، خصوصاًَ إذا ما وضعنا في عين الاعتبار أن العمل المسرحي يحاكي زمن ما قبل النفط في الكويت، وقد كانت الثقافة في بعض تفاصيلها قائمة على الخزعبلات والخرافة، بدءاً من طقس التتويب في موسم القفَّال وعودة البحارة الذي يشبه إلى حدٍّ بعيد طقوساً وثنية، الابتهال للبحر وكيِّه، وتجنب الحسد بالدم، وإبعاد الشرور بالحديد، وزيارات مقام الخضر في جزيرة فيلكا، والكثير من التفاصيل على تلك الشاكلة يغص بها التراث.
سواء كان العمل الإبداعي في مجمله من صنع الخيال أو يتكئ على حقائق، لا تجوز محاكمته بمثل تلك المفاهيم الضيقة، فعن أي فن نتحدث ونحن نخاف الفنون ونحاكمها وندينها فقط، لأنها لا توافق آراءنا أو ذائقتنا أو تعرض جانباً لا تسرنا الإشارة إليه؟